فصل: تفسير الآية رقم (104)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 50‏]‏

‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ‏(‏41‏)‏ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ‏(‏42‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ‏(‏43‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ ‏(‏44‏)‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ‏(‏45‏)‏ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏46‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ‏(‏47‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ‏(‏48‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ‏(‏49‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏فَكَيْفَ‏}‏ أي فكيف حال هؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى وغيرهم‏؟‏‏.‏ ‏{‏إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ‏}‏ يعني نبيهم يشهد على فساد عقائدهم وقبح أعمالهم، والعامل في الظرف مضمون المبتدأ والخبر من هول الأمر وتعظيم الشأن‏.‏ ‏{‏وَجِئْنَا بِكَ‏}‏ يا محمد‏.‏ ‏{‏على هَؤُلاء شَهِيداً‏}‏ تشهد على صدق هؤلاء الشهداء لعلمك بعقائدهم، واستجماع شرعك مجامع قواعدهم‏.‏ وقيل هؤلاء إشارة إلى الكفرة المستفهم عن حالهم‏.‏ وقيل إلى المؤمنين كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا‏}‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض‏}‏ بيان لحالهم حينئذ، أي يود الذين جمعوا بين الكفر وعصيان الأمر، أو الكفرة والعصاة في ذلك الوقت أن يدفنوا فتسوى بهم الأرض كالموتى، أو لم يبعثوا أو لم يخلقوا وكانوا هم والأرض سواء‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً‏}‏ ولا يقدرون على كتمانه لأن جوارحهم تشهد عليهم‏.‏ وقيل الواو للحال أي يودون أن تسوى بهم الأرض وحالهم أنهم لا يكتمون من الله حديثاً ولا يكذبونه بقولهم ‏{‏والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ إذ روي‏:‏ أنهم إذا قالوا ختم الله على أفواههم فتشهد عليهم جوارحهم، فيشتد الأمر عليهم فيتمنون أن تسوى بهم الأرض‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر ‏{‏تسوى بِهِمُ‏}‏ على أن أصله تتسوى فأدغمت التاء في السين‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏تسوى‏}‏ على حذف التاء الثانية يقال سويته فتسوى‏.‏

‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ‏}‏ أي لا تقوموا إليها وأنتم سكارى من نحو نوم أو خمر حتى تنتهوا وتعلموا ما تقولون في صلاتكم‏.‏ روي ‏(‏أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه صنع مأدبة ودعا نفراً من الصحابة حين كانت الخمر مباحة فأكلوا وشربوا حتى ثملوا، وجاء وقت صلاة المغرب فتقدم أحدهم ليصلي بهم فقرأ‏:‏ أعبد ما تعبدون‏)‏‏.‏ فنزلت‏.‏ وقيل أراد بالصلاة مواضعها وهي المساجد وليس المراد منه نهي السكران عن قربان الصلاة، وإنما المراد النهي عن الإِفراط في الشرب والسكر، من السكر وهو السد‏.‏ وقرئ ‏{‏سكارى‏}‏ بالفتح وسكرى على أنه جمه كهلكى‏.‏ أو مفرد بمعنى وأنتم قوم سكرى، أو جماعة سكرى وسكرى كحبلى على أنها صفة للجماعة‏.‏ ‏{‏وَلاَ جُنُباً‏}‏ عطف على قوله ‏{‏وَأَنتُمْ سكارى‏}‏ إذ الجملة في موضع النصب على الحال، والجنب الذي أصابته الجنابة، يستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع، لأنه يجرى مجرى المصدر‏.‏ ‏{‏إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ‏}‏ متعلق بقوله ‏{‏وَلاَ جُنُباً‏}‏، استثناء من أعم الأحوال أي لا تقربوا الصلاة جنباً في عامة الأحوال إلا في السفر وذلك إذا لم يجد الماء وتيمم، ويشهد له تعقيبه بذكر التيمم، أو صفة لقوله ‏{‏جُنُباً‏}‏ أي جنباً غير عابري سبيل‏.‏

وفيه دليل على أن التيمم لا يرفع الحدث‏.‏ ومن فسر الصلاة بمواضعها فسر عابري سبيل بالمجتازين فيها، وجوز الجنب عبور المسجد‏.‏ وبه قال الشافعي رضي الله عنه‏.‏ وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه‏:‏ لا يجوز له المرور في المسجد إلا إذا كان فيه الماء أو الطريق‏.‏ ‏{‏حتى تَغْتَسِلُواْ‏}‏ غاية النهي عن القربان حال الجنابة، وفي الآية تنبيه على أن المصلي ينبغي أن يتحرز عما يلهيه ويشغل قلبه، ويزكي نفسه عما يجب تطهيرها عنه‏.‏ ‏{‏وَإِنْ كُنتُم مرضى‏}‏ مرضاً يخاف معه من استعمال الماء، فإن الواجد كالفاقد‏.‏ أو مرضاً يمنعه عن الوصول إليه‏.‏ ‏{‏أَوْ على سَفَرٍ‏}‏ لا تجدونه فيه‏.‏ ‏{‏أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الغائط‏}‏ فأحدث بخروج الخارج من أحد السبيلين، وأصل الغائط المكان المطمئن من الأرض‏.‏ ‏{‏أَوْ لامستم النساء‏}‏ أو ما مسستم بشرتهن ببشرتكم، وبه استدل الشافعي على أن اللمس ينقض الوضوء‏.‏ وقيل‏:‏ أو جامعتموهن‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي المائدة «لمستم»، واستعماله كناية عن الجماع أقل من الملامسة‏.‏ ‏{‏فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء‏}‏ فلم تتمكنوا من استعماله، إذ الممنوع عنه كالمفقود‏.‏ ووجه هذا التقسيم أن المترخص بالتيمم إما محدث أو جنب، والحالة المقتضية له في غالب الأمر مرض أو سفر‏.‏ والجنب لما سبق ذكره اقتصر على بيان حاله والمحدث لما لم يجر ذكره ذكر من أسبابه ما يحدث بالذات وما يحدث بالعرض، واستغني عن تفصيل أحواله بتفصيل حال الجنب وبيان العذر مجملاً فكأنه قيل‏:‏ وإن كنتم جنباً مرضى أو على سفر أو محدثين جئتم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء ‏{‏فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ‏}‏‏.‏ أي فتعمدوا شيئاً من وجه الأرض طاهراً‏.‏ ولذلك قالت الحنفية‏:‏ لو ضرب المتيمم يده على حجر صلد ومسح به أجزأه‏.‏ وقال أصحابنا لا بد من أن يعلق باليد شيء من التراب لقوله تعالى في المائدة ‏{‏فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مّنْهُ‏}‏ أي بعضه، وجعل من لابتداء الغاية تعسف إذ لا يفهم من نحو ذلك إلا التبعيض، واليد اسم للعضو إلى المنكب، وما روي أنه عليه الصلاة والسلام تيمم ومسح يديه إلى مرفقيه، والقياس على الوضوء دليل على أن المراد ها هنا ‏{‏وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق‏}‏‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً‏}‏ فلذلك يسر الأمر عليكم ورخص لكم‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ‏}‏ من رؤية البصر أي ألم تنظر إليهم، أو القلب‏.‏ وعدي بإلى لتضمن معنى الانتهاء‏.‏ ‏{‏نَصِيباً مّنَ الكتاب‏}‏ حظاً يسيراً من علم التوراة لأن المراد أحبار اليهود‏.‏ ‏{‏يَشْتَرُونَ الضلالة‏}‏ يختارونها على الهدى، أو يستبدلونها به بعد تمكنهم منه، أو حصوله لهم بإنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ يأخذون الرشى ويحرفون التوراة‏.‏ ‏{‏وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ‏}‏ أيها المؤمنون‏.‏ ‏{‏السبيل‏}‏ سبيل الحق‏.‏

‏{‏والله أَعْلَمُ‏}‏ منكم‏.‏ ‏{‏بِأَعْدَائِكُمْ‏}‏ وقد أخبركم بعداوة هؤلاء وما يريدون بكم فاحذروهم‏.‏

‏{‏وكفى بالله وَلِيّاً‏}‏ يلي أمركم‏.‏ ‏{‏وكفى بالله نَصِيراً‏}‏ يعينكم فثقوا عليه واكتفوا به عن غيره‏.‏ والباء تزاد في فاعل كفى لتوكيد الاتصال الإِسنادي بالاتصال الإِضافي‏.‏

‏{‏مّنَ الذين هَادُواْ يُحَرّفُونَ‏}‏ بيان للذين أوتوا نصيباً فإنه يحتملهم وغيرهم، وما بينهما اعتراض أو بيان لأعدائكم أو صلة لنصيراً‏.‏ أي ينصركم من الذين هادوا ويحفظكم منهم، أو خبر محذوف صفته يحرفون‏.‏ ‏{‏الكلم عَن مواضعه‏}‏ أي من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها بإزالته عنها وإثبات غيره فيها‏.‏ أو يؤولونه على ما يشتهون فيميلونه عما أنزل الله فيه‏.‏ وقرئ الكلم بكسر الكاف وسكون اللام جمع كلمة تخفيف كلمة‏.‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا‏}‏ قولك‏.‏ ‏{‏وَعَصَيْنَا‏}‏ أمرك‏.‏ ‏{‏واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ‏}‏ أي مدعوا عليك بلا سمعت لصمم أو موت، أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه، أو اسمع غير مسمع كلاماً ترضاه، أو اسمع كلامًا غير مسمع إياك لأن أذنك تنبو عنه فيكون مفعولاً به، أو اسمع غير مسمع مكروهاً من قولهم أسمعه فلان إذا سبه، وإنما قالوه نفاقاً‏.‏ ‏{‏وراعنا‏}‏ انظرنا نكلمك أو نفهم كلامك‏.‏ ‏{‏لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ‏}‏ فتلا بها وصرفا للكلام إلى ما يشبه السب، حيث وضعوا راعنا المشابه لما يتسابون به موضع انظرنا وغير مسمع موضع لا أسمعت مكروهاً، أو فتلا بها وضماً لما يظهرون من الدعاء والتوقير إلى ما يضمرون من السب والتحقير نفاقاً‏.‏ ‏{‏وَطَعْناً فِي الدين‏}‏ استهزاء به وسخرية‏.‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا واسمع وانظرنا‏}‏ ولو ثبت قولهم هذا مكان ما قالوه‏.‏ ‏{‏لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ‏}‏ لكان قولهم ذلك خيراً لهم وأعدل، وإنما يجب حذف الفعل بعد لو في مثل ذلك لدلالة أن عليه ووقوعه موقعه‏.‏ ‏{‏وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ‏}‏ ولكن خذلهم الله وأبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم‏.‏ ‏{‏فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ أي إلا إيماناً قليلاً لا يعبأ به وهو الإِيمان ببعض الآيات والرسل، ويحتمل أن يراد بالقلة العدم كقوله‏:‏

قَلِيلُ التَشَكِّي لِلْمُهِم يَصِيبُه *** أَو إِلا قليلاً منهم آمنوا أو سيؤمنون

‏{‏يَأَيُّهَا الذين أُوتُواْ الكتاب ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أدبارها‏}‏ من قبل أن نمحو تخطيط صورها ونجعلها على هيئة أدبارها، يعني الأقفاء، أو ننكسها إلى ورائها في الدنيا، أو في الآخرة‏.‏ وأصل الطمس إزالة الأعلام المائلة وقد يطلق بمعنى الطلس في إزالة الصورة ولمطلق القلب والتغيير، ولذلك قيل معناه من قبل أن نغير وجوهاً فنسلب وجاهتها وإقبالها ونكسوها الصغار والإِدبار، أو نردها إلى حيث جاءت منه، وهي أذرعات الشام يعني إجلاء بني النضير، ويقرب منه قول من قال إن المراد بالوجوه الرؤساء، أو من قبل أن نطمس وجوهاً بأن نعمي الأبصار عن الاعتبار ونصم الأسماع عن الإِصغاء إلى الحق بالطبع ونردها عن الهداية إلى الضلالة‏.‏

‏{‏أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أصحاب السبت‏}‏ أو نخزيهم بالمسخ كما أخزينا به أصحاب السبت، أو نمسخهم مسخاً مثل مسخهم، أو نلعنهم على لسانك كما لعناهم على لسان داود‏.‏ والضمير لأصحاب الوجوه أو للذين على طريقة الالتفات، أو للوجوه إن أريد به الوجهاء، وعطفه على الطمس بالمعنى الأول يدل على أن المراد به ليس مسخ الصورة في الدنيا ومن حمل الوعيد على تغيير الصورة في الدنيا قال إنه بعد مترقب أو كان وقوعه مشروطاً بعدم إيمانهم وقد آمن منهم طائفة‏.‏ ‏{‏وَكَانَ أَمْرُ الله‏}‏ بإيقاع شيء أو وعيده، أو ما حكم به وقضاه‏.‏ ‏{‏مَفْعُولاً‏}‏ نافذاً وكائناً فيقع لا محالة ما أوعدتم به إن لم تؤمنوا‏.‏

‏{‏إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ‏}‏ لأنه بت الحكم على خلود عذابه وأن ذنبه لا ينمحي عنه أثره فلا يستعد للعفو بخلاف غيره‏.‏ ‏{‏وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ‏}‏ أي ما دون الشرك صغيراً كان أو كبيراً‏.‏ ‏{‏لِمَن يَشَاء‏}‏ تفضلاً عليه وإحساناً‏.‏ والمعتزلة علقوه بالفعلين على معنى إن الله لا يغفر الشرك لمن يشاء‏.‏ وهو من لم يتب ويغفر ما دونه لمن يشاء وهو من تاب‏.‏ وفيه تقييد بلا دليل إذ ليس عموم آيات الوعيد بالمحافظة أولى منه ونقض لمذهبهم فإن تعليق الأمر بالمشيئة ينافي وجوب التعذيب قبل التوبة والصفح بعدها، فالآية كما هي حجة عليهم فهي حجة على الخوارج الذين زعموا أن كل ذنب شرك وأن صاحبه خالد في النار‏.‏ ‏{‏وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً‏}‏ ارتكب ما يستحقر دونه الآثام، وهو إشارة إلى المعنى الفارق بينه وبين سائر الذنوب، والافتراء كما يطلق على القول يطلق على الفعل وكذلك الاختلاق‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ‏}‏ يعني أهل الكتاب قالوا ‏{‏نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ‏}‏ وقيل‏:‏ «ناس من اليهود جاؤوا بأطفالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ هل على هؤلاء ذنب قال لا قالوا‏:‏ والله ما نحن إلا كهيئتهم ما عملنا بالنهار كفر عنا بالليل، وما عملنا بالليل كفر عنا بالنهار» وفي معناهم من زكى نفسه وأثنى عليها‏.‏ ‏{‏بَلِ الله يُزَكّي مَن يَشَاء‏}‏ تنبيه على أن تزكيته تعالى هي المعتد بها دون تزكية غيره، فإنه العالم بما ينطوي عليه الإِنسان من حسن وقبيح، وقد ذمهم وزكى المرتضين من عباده المؤمنين‏.‏ وأصل التزكية نفي ما يستقبح فعلاً أو قولاً‏.‏ ‏{‏وَلاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ بالذم أو العقاب على تزكيتهم أنفسهم بغير حق‏.‏ ‏{‏فَتِيلاً‏}‏ أدنى ظلم وأصغره، وهو الخيط الذي في شق النواة يضرب به المثل في الحقارة‏.‏

‏{‏انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ‏}‏ في زعمهم أنهم أبناء الله وأزكياء عنده‏.‏ ‏{‏وكفى بِهِ‏}‏ بزعمهم هذا أو بالافتراء‏.‏ ‏{‏إِثْماً مُّبِيناً‏}‏ لا يخفى كونه مأثماً من بين آثامهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 53‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا ‏(‏51‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ‏(‏52‏)‏ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الكتاب يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت‏}‏ نزلت في يهود كانوا يقولون إن عبادة الأصنام أرضى عند الله مما يدعوهم إليه محمد‏.‏ وقيل في حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف في جمع من اليهود خرجوا إلى مكة يحالفون قريشاً على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ أنتم أهل كتاب وأنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا فلا نأمن مكركم فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا‏.‏ والجبت في الأصل اسم صنم فاستعمل في كل ما عبد من دون الله‏.‏ وقيل أصله الجبس وهو الذي لا خير فيه فقلبت سينه تاء‏.‏ والطاغوت يطلق لكل باطل من معبود أو غيره‏.‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ لأجلهم وفيهم‏.‏ ‏{‏هَؤُلاء‏}‏ إشارة إليهم‏.‏ ‏{‏أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً‏}‏ أقوم ديناً وأرشد طريقاً‏.‏

‏{‏أُوْلَئِكَ الذين لَعَنَهُمُ الله وَمَن يَلْعَنِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً‏}‏ يمنع العذاب منه بشفاعة أو غيرها‏.‏

‏{‏أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الملك‏}‏ أم منقطعة ومعنى الهمزة إنكار أن يكون لهم نصيب من الملك وجحد لما زعمت اليهود من أن الملك سيصير إليهم‏.‏ ‏{‏فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيراً‏}‏ أي لو كان لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون أحداً ما يوازي نقيرا، وهو النقرة في ظهر النواة‏.‏ وهذا هو الإغراق في بيان شحهم فإنهم إن بخلوا بالنقير وهم ملوك فما ظنك بهم إذا كانوا فقراء أذلاء متفاقرين، ويجوز أن يكون المعنى إنكار أنهم أوتوا نصيباً من الملك على الكناية، وأنهم لا يؤتون الناس شيئاً وإذا وقع بعد الواو والفاء لا لتشريك مفرد جاز فيه الإلغاء والإِعمال، ولذلك قرئ فإذاً لا يؤتوا الناس على النصب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ يَحْسُدُونَ الناس‏}‏ بل أيحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أو العرب، أو الناس جميعاً لأن من حسد على النبوة فكأنما حسد الناس كلهم كمالهم‏.‏ ورشدهم وبخعهم وأنكر عليهم الحسد كما ذمهم على البخل وهما شر الرذائل وكأن بينهما تلازماً وتجاذباً‏.‏ ‏{‏على مَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ‏}‏ يعني النبوة والكتاب والنصرة والإِعزاز وجعل النبي الموعود منهم‏.‏ ‏{‏فَقَدْ ءَاتَيْنَا ءالَ إبراهيم‏}‏ الذين هم أسلاف محمد صلى الله عليه وسلم وأبناء عمه‏.‏ ‏{‏الكتاب والحكمة‏}‏ النبوة‏.‏ ‏{‏وَآتَيْنَاهُمْ مُلكاً عَظِيماً‏}‏ فلا يبعد أن يؤتيه الله مثل ما آتاهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏فَمِنْهُمْ‏}‏ من اليهود‏.‏ ‏{‏مَنْ ءامَنَ بِهِ‏}‏ بمحمد صلى الله عليه وسلم أو بما ذكر من حديث آل إبراهيم‏.‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ‏}‏ أعرض عنه ولم يؤمن به وقيل معناه فمن آل إبراهيم من آمن به ومنهم من كفر ولم يكن في ذلك توهين أمره فكذلك لا يوهن كفر هؤلاء أمرك‏.‏ ‏{‏وكفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً‏}‏ ناراً مسعورة يعذبون بها أي إن لم يعجلوا بالعقوبة فقد كفاهم ما أعد لهم من سعير جهنم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ بئاياتنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً‏}‏ كالبيان والتقرير لذلك‏.‏ ‏{‏كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بدلناهم جُلُوداً غَيْرَهَا‏}‏ بأن يعاد ذلك الجلد بعينه على صورة أخرى كقولك‏:‏ بدلت الخاتم قرطاً، أو بأن يزال عنه أثر الإِحراق ليعود إحساسه للعذاب كما قال‏:‏ ‏{‏لِيَذُوقُواْ العذاب‏}‏ أي ليدوم لهم ذوقه‏.‏ وقيل يخلق لهم مكانه جلد آخر والعذاب في الحقيقة للنفس العاصية المدركة لا لآلة إدراكها فلا محذور‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً‏}‏ لا يمتنع عليه ما يريده‏.‏ ‏{‏حَكِيماً‏}‏ يعاقب على وفق حكمته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 62‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا ‏(‏57‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏58‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ‏(‏59‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏60‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ‏(‏61‏)‏ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً‏}‏ قدم ذكر الكفار ووعيدهم على ذكر المؤمنين ووعدهم لأن الكلام فيهم، وذكر المؤمنين بالعرض‏.‏ ‏{‏لَّهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً‏}‏ فينانا لا جوب فيه ودائماً لا تنسخه الشمس، وهو إشارة إلى النعمة التامة الدائمة‏.‏ والظليل صفة مشتقة من الظل لتأكيده كقولهم‏:‏ شمس شامس وليل أليل ويوم أيوم‏.‏

‏{‏إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إِلَى أَهْلِهَا‏}‏ خطاب يعم المكلفين والأمانات، وإن نزلت يوم الفتح في عثمان بن طلحة بن عبد الدار لما أغلق باب الكعبة، وأبى أن يدفع المفتاح ليدخل فيها رسول الله وقال‏:‏ لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه فلوى علي كرم الله وجهه يده وأخذه منه وفتح، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى ركعتين فلما خرج سأله العباس رضي الله عنه أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية والسدانة‏.‏ فنزلت فأمره الله أن يرده إليه، فأمر علياً رضي الله عنه أن يرده ويعتذر إليه، وصار ذلك سبباً لإِسلامه ونزل الوحي بأن السدانة في أولاده أبداً ‏{‏وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل‏}‏ أي وأن تحكموا بالإِنصاف والسوية إذا قضيتم بين من ينفذ عليه أمركم، أو يرضى بحكمكم ولأن الحكم وظيفة الولاة قيل الخطاب لهم‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ‏}‏ أي نعم شيئاً يعظكم به، أو نعم الشيء الذي يعظكم به فما منصوبة موصوفة بيعظكم به‏.‏ أو مرفوعة موصولة به‏.‏ والمخصوص بالمدح محذوف وهو المأمور به من أداء الأمانات والعدل في الحكومات‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً‏}‏ بأقوالكم وأحكامكم وما تفعلون في الأمانات‏.‏

‏{‏يا أيها الذين ءامَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ‏}‏ يريد بهم أمراء المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وبعده، ويندرج فيهم الخلفاء والقضاة وأمراء السرية‏.‏ أمر الناس بطاعتهم بعدما أمرهم بالعدل تنبيهاً على أن وجوب طاعتهم ما داموا على الحق‏.‏ وقيل علماء الشرع لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِي الامر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ‏}‏ ‏{‏فَإِن تَنَازَعْتُمْ‏}‏ أنتم وأولو الأمر منكم‏.‏ ‏{‏فِي شَيْءٍ‏}‏ من أمور الدين، وهو يؤيد الوجه الأول إذ ليس للمقلد أن ينازع المجتهد في حكمه بخلاف المرؤوس إلا أن يقال الخطاب لأولي الأمر على طريقة الالتفات‏.‏ ‏{‏فَرُدُّوهُ‏}‏ فراجعوا فيه‏.‏ ‏{‏إِلَى الله‏}‏ إلى كتابه‏.‏ ‏{‏والرسول‏}‏ بالسؤال عنه في زمانه، والمراجعة إلى سنته بعده‏.‏ واستدل به منكرو القياس وقالوا‏:‏ إنه تعالى أوجب رد المختلف إلى الكتاب والسنة دون القياس‏.‏ وأجيب بأن رد المختلف إلى المنصوص عليه إنما يكون بالتمثيل والبناء عليه وهو القياس، ويؤيد ذلك الأمر به بعد الأمر بطاعة الله وطاعة رسوله فإنه يدل على أن الأحكام ثلاثة مثبت بالكتاب ومثبت بالسنة ومثبت بالرد إليهما على وجه القياس‏.‏

‏{‏إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر‏}‏ فَإِن الإِيمان يوجب ذلك‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الرد‏.‏ ‏{‏خَيْرٌ‏}‏ لكم‏.‏ ‏{‏وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً‏}‏ عاقبة أو أحسن تأويلاً من تأويلكم بلا رد‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطاغوت‏}‏ عن ابن عباس رضي الله عنهما‏.‏ ‏"‏ أن منافقاً خاصم يهودياً فدعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف ثم إنهما احتكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم لليهودي فلم يرض المنافق بقضائه وقال‏:‏ نتحاكم إلى عمر فقال اليهودي لعمر‏:‏ قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرض بقضائه وخاصم إليك، فقال عمر رضي الله تعالى عنه للمنافق‏:‏ أكذلك‏.‏ فقال نعم‏.‏ فقال‏:‏ مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل فأخذ سيفه ثم خرج فضرب به عنق المنافق حتى برد وقال‏:‏ هكذا أقضي لمن يرضَ بقضاء الله ورسوله ‏"‏ فنزلت‏.‏ وقال جبريل إن عمر قد فرق بين الحق والباطل فسمي الفاروق، والطاغوت على هذا كعب بن الأشرف وفي معناه من يحكم بالباطل ويؤثر لأجله، سمي بذلك لفرط طغيانه أو لتشبهه بالشيطان، أو لأن التحاكم إليه تحاكم إلى الشيطان من حيث إنه الحامل عليه كما قال‏.‏ ‏{‏وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ ضلالا بَعِيداً‏}‏ وقرئ أن «يكفروا بها» على أن الطاغوت جمع كقوله تعالى ‏{‏أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُم‏}‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول‏}‏ وقرئ ‏{‏تَعَالَوْاْ‏}‏ بضم اللام على أنه حذف لام الفعل اعتباطاً ثم ضم اللام لواو الضمير‏.‏ ‏{‏رَأَيْتَ المنافقين يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً‏}‏ هو مصدر أو اسم للمصدر الذي هو الصد، والفرق بينه وبين السد أنه غير محسوس والسد محسوس ويصدون في موضع الحال‏.‏

‏{‏فَكَيْفَ‏}‏ يكون حالهم‏.‏ ‏{‏إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ‏}‏ كقتل عمر المنافق أو النقمة من الله تعالى‏.‏ ‏{‏بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ من التحاكم إلى غيرك وعدم الرضى بحكمك‏.‏ ‏{‏ثُمَّ جَاؤُوكَ‏}‏ حين يصابون للاعتذار، عطف على أصابتهم‏.‏ وقيل على يصدون وما بينهما اعتراض‏.‏ ‏{‏يَحْلِفُونَ بالله‏}‏ حال‏.‏ ‏{‏إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً‏}‏ ما أردنا بذلك إلا الفصل بالوجه الأحسن والتوفيق بين الخصمين، ولم نرد مخالفتك‏.‏ وقيل جاء أصحاب القتيل طالبين بدمه وقالوا ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلا أن يحسن إلى صاحبنا ويوفق بينه وبين خصمه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 73‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ‏(‏63‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ‏(‏64‏)‏ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ‏(‏65‏)‏ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ‏(‏66‏)‏ وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏67‏)‏ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏68‏)‏ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ‏(‏69‏)‏ ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ‏(‏70‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ‏(‏71‏)‏ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ‏(‏72‏)‏ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏أُولَئِكَ الذين يَعْلَمُ الله مَا فِي قُلُوبِهِمْ‏}‏ من النفاق فلا يغني عنهم الكتمان والحلف الكاذب من العقاب‏.‏ ‏{‏فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ‏}‏ أي عن عقابهم لمصلحة في استبقائهم أو عن قبول معذرتهم‏.‏ ‏{‏وَعِظْهُمْ‏}‏ بلسانك وكفهم عما هم عليه‏.‏ ‏{‏وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ‏}‏ أي في معنى أنفسهم أو خالياً بهم فإن النصح في السر أنجع‏.‏ ‏{‏قَوْلاً بَلِيغاً‏}‏ يبلغ منهم ويؤثر فيهم، أمرهم بالتجافي عن ذنوبهم والنصح لهم والمبالغة فيه بالترغيب والترهيب، وذلك مقتضى شفقة الأنبياء عليهم السلام، وتعليق الظرف ببليغا على معنى بليغاً في أنفسهم مؤثراً فيها ضعيف لأن معمول الصفة لا يتقدم على الموصوف، والقول البليغ في الأصل هو الذي يطابق مدلوله المقصود به‏.‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله‏}‏ بسبب إذنه في طاعته وأمره المبعوث إليهم بأن يطيعوه، وكأنه احتج بذلك على أن الذي لم يرض بحكمه وإن أظهر الإسلام كان كافراً مستوجب القتل، وتقريره أن إرسال الرسول لما لم يكن إلا ليطاع كان من لم يطعه ولم يرض بحكمه لم يقبل رسالته ومن كان كذلك كان كافراً مستوجب القتل‏.‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ‏}‏ بالنفاق أو التحاكم إلى الطاغوت‏.‏ ‏{‏جاؤوكَ‏}‏ تائبين من ذلك وهو خبر أن وإذ متعلق به‏.‏ ‏{‏جَاءوكَ فاستغفروا الله‏}‏ بالتوبة والإِخلاص‏.‏ ‏{‏واستغفر لَهُمُ الرسول‏}‏ واعتذروا إليك حتى انتصبت لهم شفيعاً، وإنما عدل الخطاب تفخيماً لشأنه وتنبيهاً على أن من حق الرسول أن يقبل اعتذار التائب وإن عظم جرمه ويشفع له، ومن منصبه أن يشفع في كبائر الذنوب‏.‏ ‏{‏لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً‏}‏ لعلموه قابلاً لتوبتهم متفضلاً عليهم بالرحمة، وإن فسر وجد بصادف كان تواباً حالاً ورحيماً بدلاً منه أو حالاً من الضمير فيه‏.‏

‏{‏فَلاَ وَرَبّكَ‏}‏ أي فوربك، ولا مزيدة لتأكيد القسم لا لتظاهر لا في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ لأنها تزاد أيضاً في الإثبات كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد‏}‏ ‏{‏حتى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ‏}‏ فيما اختلف بينهم واختلط ومنه الشجر لتداخل أغصانه‏.‏ ‏{‏ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ‏}‏ ضيقاً مما حكمت به، أو من حكمك أو شكاً من أجله، فإن الشاك في ضيق من أمره‏.‏ ‏{‏وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً‏}‏ وينقادوا لك انقياداً بظاهرهم وباطنهم‏.‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقتلوا أَنفُسَكُمْ‏}‏ تعرضوا بها للقتل في الجهاد، أو اقتلوها كما قتل بنو إسرائيل وأن مصدرية أو مفسرة لأن كتبنا في معنى أمرنا‏.‏ ‏{‏أَوِ اخرجوا مِن دياركم‏}‏ خروجهم حين استتيبوا من عبادة العجل، وقرأ أبو عمرو ويعقوب أن اقتلوا بكسر النون على أصل التحريك، أو اخرجوا بضم الواو للاتباع والتشبيه بواو الجمع في نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنسَوُوا الفضل‏}‏ وقرأ حمزة وعاصم بكسرهما على الأصل والباقون بضمهما إجراء لهما مجرى الهمزة المتصلة بالفعل‏.‏

‏{‏وَمَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ‏}‏ إلا أناس قليل وهم المخلصون‏.‏ لما بين أن إيمانهم لا يتم إلا بأن يسلموا حق التسليم، نبه على قصور أكثرهم ووهن إسلامهم، والضمير للمكتوب ودل عليه كتبنا، أو لأحد مصدري الفعلين وقرأ ابن عامر بالنصب على الاستثناء أو على إلا فعلاً قليلاً‏.‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ‏}‏ من متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم مطاوعته طوعاً ورغبة‏.‏ ‏{‏لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ‏}‏ في عاجلهم وآجلهم‏.‏ ‏{‏وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً‏}‏ في دينهم لأنه أشد لتحصيل العلم ونفي الشك أو تثبيتاً لثواب أعمالهم ونصبه على التمييز‏.‏ والآيه أيضاً مما نزلت في شأن المنافق اليهودي‏.‏ وقيل إنها والتي قبلها نزلتا في حاطب بن أبي بلتعة خاصم زبيراً في شراج من الجرة كانا يسقيان بها النخل، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك، فقال حاطب‏:‏ لأن كان ابن عمتك‏.‏ فقال عليه الصلاة والسلام أسق يا زبير ثم احبس الماء إلى الجدر واستوف حقك، ثم أرسله إلى جارك» ‏{‏وإذالآتيناهم مّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً‏}‏ جواب لسؤال مقدر كأنه قيل؛ وما يكون لهم بعد التثبيت فقال وإذا لو تثبتوا لآتيناهم لأن ‏{‏إِذَا‏}‏ جواب وجزاء‏.‏

‏{‏ولهديناهم صراطا مُّسْتَقِيماً‏}‏ يصلون بسلوكه جناب القدس ويفتح عليهم أبواب الغيب، قال النبي صلى الله عليه وسلم «من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم» ‏{‏وَمَن يُطِعِ الله والرسول فَأُوْلَئِكَ مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم‏}‏ مزيد ترغيب في الطاعة بالوعد عليها مرافقة أكرم الخلائق وأعظمهم قدراً‏.‏ ‏{‏مّنَ النبيين والصديقين والشهداء والصالحين‏}‏ بيان للذين أو حال منه، أو من ضميره قسمهم أربعة أقسام بحسب منازلهم في العلم والعمل، وحث كافة الناس على أن لا يتأخروا عنهم، وهم‏:‏ الأنبياء الفائزون بكمال العلم والعمل المتجاوزون حد الكمال إلى درجة التكميل‏.‏ ثم الصديقون الذين صعدت نفوسهم تارة بمراقي النظر في الحجج والآيات وأخرى بمعارج التصفية والرياضات إلى أوج العرفان، حتى اطلعوا على الأشياء وأخبروا عنها على ما هي عليها‏.‏ ثم الشهداء الذين أدى بهم الحرص على الطاعة والجد في إظهار الحق حتى بذلوا مهجهم في إعلاء كلمة الله تعالى‏.‏ ثم الصالحون الذين صرفوا أعمارهم في طاعته وأموالهم في مرضاته‏.‏ ولك أن تقول المنعم عليهم هم العارفون بالله وهؤلاء إما أن يكونوا بالغين درجة العيان أو واقفين في مقام الاستدلال والبرهان‏.‏ والأولون إما أن ينالوا مع العيان القرب بحيث يكونون كمن يرى الشيء قريباً وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أولاً فيكونون كمن يرى الشيء بعيداً وهم الصديقون، والآخرون إما أن يكون عرفانهم بالبراهين القاطعة وهم العلماء الراسخون في العلم الذين هم شهداء الله في أرضه، وإما أن يكون بأمارات وإقناعات تطمئن إليها نفوسهم وهم الصالحون‏.‏

‏{‏وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً‏}‏ في معنى التعجب، و‏{‏رفيقاً‏}‏ في معنى التعجب، ورفيقاً نصب على التمييز أو الحال ولم يجمع لأنه يقال للواحد والجمع كالصديق، أو لأنه أريد وحسن كل واحد منهم رفيقاً‏.‏ روي أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه يوماً وقد تغير وجهه ونحل جسمه، فسأله عن حاله فقال‏:‏ ما بي من وجع غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة فخفت أن لا أراك هناك لأني عرفت أنك ترتفع مع النبيين وإن أدخلت الجنة كنت في منزل دون منزلك، وإن لم أدخل فذلك حين لا أراك أبداً فنزلت‏.‏

‏{‏ذَلِكَ‏}‏ مبتدأ إشارة إلى ما للمطيعين من الأجر ومزيد الهداية ومرافقة المنعم عليهم، أو إلى فضل هؤلاء المنعم عليهم ومزيتهم‏.‏ ‏{‏الفضل‏}‏ صفته‏.‏ ‏{‏مِنَ الله‏}‏ خبره أو الفضل خبره ومن الله حال والعامل فيه معنى الإِشارة‏.‏ ‏{‏وكفى بالله عَلِيماً‏}‏ بجزاء من أطاعه، أو بمقادير الفضل واستحقاق أهله‏.‏

‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ‏}‏ تيقظوا واستعدوا للأعداء، والحذر والحذر كالأثر والأثر‏.‏ وقيل ما يحذر به كالحزم والسلاح‏.‏ ‏{‏فانفروا‏}‏ فاخرجوا إلى الجهاد‏.‏ ‏{‏ثُبَاتٍ‏}‏ جماعات متفرقة، جمع ثبة من ثبيت على فلان تثبية إذا ذكرت متفرق محاسنه ويجمع أيضاً على ثبين جبراً لما حذف من عجزه‏.‏ ‏{‏أَوِ انفروا جَمِيعاً‏}‏ مجتمعين كوكبة واحدة، والآية وإن نزلت في الحرب لكن يقتضي إطلاق لفظها وجوب المبادرة إلى الخيرات كلها كيفما أمكن قبل الفوات‏.‏

‏{‏وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ‏}‏ الخطاب لعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين منهم والمنافقين والمبطئون منافقوهم تثاقلوا وتخلفوا عن الجهاد، من بطأ بمعنى أبطأ وهو لازم أو ثبطوا غيرهم كما ثبط ابن أبي ناساً يوم أحد، من بطأ منقولاً من بطؤ كثقل من ثقل واللام الأولى للابتداء دخلت اسم إن للفصل بالخبر، والثانية جواب قسم محذوف والقسم بجوابه صلة من والراجع إليه ما استكن في ليبطئن والتقدير‏:‏ وإن منكم لمن أقسم بالله ليبطئن‏.‏ ‏{‏فَإِنْ أصابتكم مُّصِيبَةٌ‏}‏ كقتل وهزيمة‏.‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ أي المبطئ‏.‏ ‏{‏قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَىَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً‏}‏ حاضراً فيصيبني ما أصابهم‏.‏

‏{‏وَلَئِنْ أصابكم فَضْلٌ مِنَ الله‏}‏ كفتح وغنيمة‏.‏ ‏{‏لَّيَقُولَنَّ‏}‏ أكده تنبيهاً على فرط تحسره، وقرئ بضم اللام إعادة للضمير إلى معنى ‏{‏مِنْ‏}‏‏.‏ ‏{‏كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ‏}‏ اعتراض بين الفعل ومفعوله وهو‏.‏ ‏{‏ياليتني كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً‏}‏ للتنبيه على ضعف عقيدتهم، وأن قولهم هذا قول من لا مواصلة بينكم وبينه، وإنما يريد أن يكون معكم لمجرد المال، أو حال من الضمير في ليقولن أو داخل في المقول أي يقول المبطئ لمن يبطئه من المنافقين، وضعفه المسلمين تضريباً وحسداً، كأن لم يكن بينكم وبين محمد صلى الله عليه وسلم مودة حيث لم يستعن بكم فتفوزوا بما فازيا ليتني كنت معهم‏.‏ وقيل‏:‏ إنه متصل بالجملة الأولى وهو ضعيف، إذ لا يفصل أبعاض الجملة بما لا يتعلق بها لفظاً ومعنى وكأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وهو محذوف‏.‏ وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم ورويس عن يعقوب ‏{‏تَكُنْ‏}‏ بالتاء لتأنيث لفظ المودة، والمنادى في يا ليتني محذوف أي‏:‏ يا قوم وقيل يا أطلق للتنبيه على الاتساع فأفوز نصب على جواب التمني وقرئ بالرفع على تقدير فأنا أفوز في ذلك الوقت، أو العطف على كنت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 75‏]‏

‏{‏فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏74‏)‏ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله الذين يَشْرُونَ الحياة الدنيا بالآخرة‏}‏ أي الذين يبيعونها بها، والمعنى إن بطأ هؤلاء عن القتال فليقاتل المخلصون الباذلون أنفسهم في طلب الآخرة، أو الذين يشترونها ويختارونها على الآخرة وهم المبطئون، والمعنى حثهم على ترك ما حكي عنهم‏.‏ ‏{‏وَمَن يقاتل فِى سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً‏}‏ وعد له الأجر العظيم غَلَبَ أو غُلِبَ، ترغيباً في القتال وتكذيباً لقولهم ‏{‏قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَىَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً‏}‏ وإنما قال ‏{‏فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ‏}‏ تنبيهاً على أن المجاهد ينبغي أن يثبت في المعركة حتى يعز نفسه بالشهادة أو الدين، بالظفر والغلبة وأن لا يكون قصده بالذات إلى القتل، بل إلى إعلاء الحق وإعزاز الدين‏.‏

‏{‏وَمَا لَكُمْ‏}‏ مبتدأ وخبر‏.‏ ‏{‏لاَ تقاتلون فِي سَبِيلِ الله‏}‏ حال والعامل فيها ما في الظرف من معنى الفعل‏.‏ ‏{‏والمستضعفين‏}‏ عطف على اسم الله تعالى أي وفي سبيل المستضعفين، وهو تخليصهم من الأسر وصونهم عن العدو، أو على سبيل بحذف المضاف أي وفي خلاص المستضعفين، ويجوز نصبه على الاختصاص فإن سبيل الله تعالى يعم أبواب الخير، وتخليص ضعفة المسلمين من أيدي الكفار أعظمها وأخصها‏.‏ ‏{‏مِنَ الرجال والنساء والولدان‏}‏ بيان للمستضعفين وهم المسلمون الذين بقوا بمكة لصد المشركين، أو ضعفهم عن الهجرة مستذلين ممتحنين، وإنما ذكر الولدان مبالغة في الحث وتنبيهاً على تناهي ظلم المشركين بحيث بلغ أذاهم الصبيان، وأن دعوتهم أجيبت بسبب مشاركتهم في الدعاء حتى يشاركوا في استنزال الرحمة واستدفاع البلية‏.‏ وقيل المراد به العبيد والإِماء وهو جمع وليد‏.‏ ‏{‏الذين يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية الظالم أَهْلُهَا واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً‏}‏ فاستجاب الله دعاءهم بأن يسر لبعضهم الخروج إلى المدينة وجعل لمن بقي منهم خير ولي وناصر بفتح مكة على نبيه صلى الله عليه وسلم، فتولاهم ونصرهم ثم استعمل عليهم عتاب بن أسيد فحماهم ونصرهم حتى صاروا أعز أهلها، والقرية مكة والظالم صفتها، وتذكيره لتذكير ما أسند إليه فإن اسم الفاعل أو المفعول إذا جرى على غير من هو له كان كالفعل يذكر ويؤنث على حسب ما عمل فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏الذين ءامَنُواْ يقاتلون فِي سَبِيلِ الله‏}‏ فيما يصلون به إلى الله سبحانه وتعالى‏.‏ ‏{‏والذين كَفَرُواْ يقاتلون فِي سَبِيلِ الطاغوت‏}‏ فيما يبلغ بهم إلى الشيطان‏.‏ ‏{‏فقاتلوا أَوْلِيَاء الشيطان‏}‏ لما ذكر مقصد الفريقين أمر أولياءه أن يقاتلوا أولياء الشيطان ثم شجعهم بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً‏}‏ أي إن كيده للمؤمنين بالإِضافة إلى كيد الله سبحانه وتعالى للكافرين‏.‏ ضعيف لا يؤبه به فلا تخافوا أولياءه، فإن اعتمادهم على أضعف شيء وأوهنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ‏}‏ أي عن القتال‏.‏ ‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ‏}‏ واشتغلوا بما أمرتم به‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله‏}‏ يخشون الكفار أن يقتلوهم كما يخشون الله أن ينزل عليهم بأسه، وإذا للمفاجأة جواب لما وفريق مبتدأ منهم صفته ويخشون خبره وكخشية الله من إضافة المصدر إلى المفعول، وقع موقع المصدر أو الحال من فاعل يخشون على معنى، يخشون الناس مثل أهل خشية الله منه‏.‏ ‏{‏أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً‏}‏ عطف عليه إن جعلته حالاً وإن جعلته مصدراً فلا، لأن أفعل التفضيل إذا نصب ما بعده لم يكن من جنسه بل هو معطوف على اسم الله تعالى أي‏:‏ وكخشية الله تعالى أو كخشية أشد خشية منه، على الفرض اللهم إلا أن تجعل الخشية ذات خشية كقولهم‏:‏ جد جده على معنى يخشون الناس خشية مثل خشية الله تعالى، أو خشية أشد خشية من خشية الله‏.‏ ‏{‏وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال لَوْلا أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ‏}‏ استزادة في مدة الكف عن القتال حذراً عن الموت، ويحتمل أنهم ما تفوهوا به ولكن قالوه في أنفسهم فحكى الله تعالى عنهم‏.‏ ‏{‏قُلْ متاع الدنيا قَلِيلٌ‏}‏ سريع التقضي ‏{‏والآخرة خَيْرٌ لّمَنِ اتقى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً‏}‏ أي ولا تنقصون أدنى شيء من ثوابكم فلا ترغبوا عنه، أو من آجالكم المقدرة‏.‏ وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ‏{‏وَلاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ لتقدم الغيبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت‏}‏ قرئ بالرفع على حذف الفاء كما في قوله‏:‏

مَنْ يَفْعَلِ الحَسَناتِ الله يَشْكُرُهَا‏.‏ أو على أنه كلام مبتدأ، وأينما متصل ب ‏{‏لاَ تُظْلَمُونَ‏}‏‏.‏ ‏{‏وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ‏}‏ في قصور أو حصون مرتفعة، والبروج في الأصل بيوت على أطراف القصور، من تبرجت المرأة إذا ظهرت‏.‏ وقرئ مشيدة بكسر الياء وصفاً لها بوصف فاعلها كقولهم‏:‏ قصيدة شاعرة، ومشيدة من شاد القصر إذا رفعه‏.‏ ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ‏}‏ كما تقع الحسنة والسيئة على الطاعة والمعصية يقعان على النعمة والبلية، وهما المراد في الآية أي‏:‏ وإن تصبهم نعمة كخصب نسبوها إلى الله سبحانه وتعالى، وإن تصبهم بلية كقحط ضافوها إِليك وقالوا إن هي إلا بشؤمك كما قالت اليهود‏:‏ منذ دخل محمد المدينة نقصت ثمارها وغلت أسعارها‏.‏ ‏{‏قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله‏}‏ أي يبسط ويقبض حسب إرادته‏.‏ ‏{‏فَمَالِ هَؤُلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً‏}‏ يوعظون به، وهو القرآن فإنهم لو فهموه وتدبروا معانيه لعلموا أن الكل من عند الله سبحانه وتعالى، أو حديثاً ما كبهائم لا أفهام لها أو حادثاً من صروف الزمان فيفتكرون فيه فيعملون أن القابض والباسط هو الله سبحانه وتعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏مَا أَصَابَكَ‏}‏ يا إنسان‏.‏ ‏{‏مِنْ حَسَنَةٍ‏}‏ من نعمة‏.‏ ‏{‏فَمِنَ الله‏}‏ أي تفضلاً منه، فإن كل ما يفعله الإِنسان من الطاعة لا يكافئ نعمة الوجود، فكيف يقتضي غيره، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ما يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله تعالى‏.‏ قيل ولا أنت قال‏:‏ ولا أنا» ‏{‏وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيّئَةٍ‏}‏ من بلية‏.‏ ‏{‏فَمِن نَّفْسِكَ‏}‏ لأنها السبب فيها لاستجلابها بالمعاصي، وهو لا ينافي قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله‏}‏ فإن الكل منه إيجاداً وإيصالاً غير أن الحسنة إحسان وامتنان والسيئة مجازاة وانتقام كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها «ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها وحتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب وما يعفو الله أكثر» والآيتان كما ترى لا حجة فيهما لنا وللمعتزلة‏.‏ ‏{‏وأرسلناك لِلنَّاسِ رَسُولاً‏}‏ حال قصد بها التأكيد إن علق الجار بالفعل والتعميم إن علق بها أي رسولاً للناس جميعاً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ‏}‏ ويجوز نصبه على المصدر كقوله‏:‏ ولا خَارِجاً مِنْ فيَّ زُور كَلاَمِ‏.‏ ‏{‏وكفى بالله شَهِيداً‏}‏ على رسالتك بنصب المعجزات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله‏}‏ لأنه عليه الصلاة والسلام في الحقيقة مبلغ، والأمر هو الله سبحانه وتعالى‏.‏ روي ‏(‏أنه عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ «من أحبني فقد أحب الله ومن أطاعني فقد أطاع الله» فقال‏:‏ المنافقون لقد قارف الشرك وهو ينهى عنه، ما يريد إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى رباً‏)‏ فنزلت‏.‏ ‏{‏وَمَن تولى‏}‏ عن طاعته‏.‏ ‏{‏فَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً‏}‏ تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها، إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب وهو حال من الكاف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏81‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَقُولُونَ‏}‏ إذا أمرتهم بأمر‏.‏ ‏{‏طَاعَةٌ‏}‏ أي أمرنا أو منا طاعة، وأصلها النصب على المصدر ورفعها للدلالة على الثبات‏.‏ ‏{‏فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ‏}‏ خرجوا‏.‏ ‏{‏بَيَّتَ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ غَيْرَ الذي تَقُولُ‏}‏ أي زورت خلاف ما قلت لها، أو ما قالت لك من القبول وضمان الطاعة، والتبييت إما من البيتوتة لأن الأمور تدبر بالليل، أو من بيت الشعر، أو البيت المبني لأنه يسوي ويدبر‏.‏ وقرأ أبو عمرو وحمزة ‏{‏بَيَّتَ طَائِفَةٌ‏}‏ بالإِدغام لقربهما في المخرج‏.‏ ‏{‏والله يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ‏}‏ يثبته في صحائفهم للمجازاة، أو في جملة ما يوحى إليك لتطلع على أسرارهم‏.‏ ‏{‏فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ‏}‏ قلل المبالاة بهم أو تجاف عنهم‏.‏ ‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الله‏}‏ في الأمور كلها سيما في شأنهم‏.‏ ‏{‏وكفى بالله وَكِيلاً‏}‏ يكفيك مضرتهم وينتقم لك منهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان‏}‏ يتأملون في معانيه ويتبصرون ما فيه، وأصل التدبر النظر في أدبار الشيء‏.‏ ‏{‏وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله‏}‏ أي ولو كان من كلام البشر كما تزعم الكفار‏.‏ ‏{‏لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً‏}‏ من تناقض المعنى وتفاوت النظم، وكان بعضه فصيحاً وبعضه ركيكاً، وبعضه يصعب معارضته وبعضه يسهل، ومطابقة بعض أخباره المستقبلة للواقع دون بعض، وموافقة العقل لبعض أحكامه دون بعض، على ما دل عليه الاستقراء لنقصان القوة البشرية‏.‏ ولعل ذكره ها هنا للتنبيه على أن اختلاف ما سبق من الأحكام ليس لتناقض في الحكم بل لاختلاف الأحوال في الحكم والمصالح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمن أَوِ الخوف‏}‏ مما يوجب الأمن أو الخوف‏.‏ ‏{‏أَذَاعُواْ بِهِ‏}‏ أفشوه كما كان يفعله قوم من ضعفة المسلمين إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بما أوحي إليه من وعد بالظفر، أو تخويف من الكفرة أذاعوا به لعدم حزمهم فكانت إذاعتهم مفسدة‏.‏ والباء مزيدة أو لتضمن الإِذاعة معنى التحدث‏.‏ ‏{‏وَلَوْ رَدُّوهُ‏}‏ أي ولو ردوا ذَلك الخبر‏.‏ ‏{‏إِلَى الرسول وإلى أُوْلِى الأمر مِنْهُمْ‏}‏ إلى رأيه ورأي كبار أصحابه البصراء بالأمور، أو الأمراء‏.‏ ‏{‏لَعَلِمَهُ‏}‏ لَعلم ما أخبروا به على أي وجه يذكر‏.‏ ‏{‏الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ‏}‏ يستخرجون تدابيره بتجاربهم وأنظارهم‏.‏ وقيل كانوا يسمعون أراجيف المنافقين فيذيعونها فتعود وبالاً على المسلمين، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم حتى يسمعوه منهم وتعرفوا أنه هل يذاع لعلم ذلك من هؤلاء الذين يستنبطونه من الرسول وأولي الأمر أي‏:‏ يستخرجون علمه من جهتهم، وأصل الاستنباط إخراج النبط‏:‏ وهو الماء، يخرج من البئر أول ما يحفر‏.‏ ‏{‏وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ‏}‏ بإرسال الرسول وإنزال الكتاب‏.‏ ‏{‏لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان‏}‏ والكفر والضلال‏.‏ ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ أي إِلا قليلاً منكم تفضل الله عليه بعقل راجح اهتدى به إلى الحق والصواب، وعصمه عن متابعة الشيطان كزيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل‏.‏ أو إلا اتباعاً قليلاً على الندور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله‏}‏ أن تثبطوا وتركوك وحدك‏.‏ ‏{‏لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ‏}‏ إلا فعل نفسك لا يضرك مخالفتهم وتقاعدهم، فتقدم إلى الجهاد وإن لم يساعدك أحد فإن الله ناصرك لا الجنود‏.‏ روي ‏"‏ أنه عليه الصلاة والسلام دعا الناس في بدر الصغرى إلى الخروج فكرهه بعضهم فنزلت‏.‏ فخرج عليه الصلاة والسلام وما معه إلا سبعون لم يلو على أحدٍ ‏"‏ وقرئ لا ‏{‏تُكَلَّف‏}‏ بالجزم، و«لا نكلف» بالنون على بناء الفاعل أي لا نكلفك إلا فعل نفسك، لا أنا لا نكلف أحداً إلا نفسك لقوله‏:‏ ‏{‏وَحَرّضِ المؤمنين‏}‏ على القتال إذ ما عليك في شأنهم إلا التحريض ‏{‏عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ يعني قريشاً، وقد فعل بأن ألقى في قلوبهم الرعب حتى رجعوا‏.‏ ‏{‏والله أَشَدُّ بَأْساً‏}‏ من قريش‏.‏ ‏{‏وَأَشَدُّ تَنكِيلاً‏}‏ تعذيباً منهم، وهو تقريع وتهديد لمن لم يتبعه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏مَّن يَشْفَعْ شفاعة حَسَنَةً‏}‏ راعى بها حق مسلم ودفع بها عنه ضراً أو جلب إليه نفعاً ابتغاء لوجه الله تعالى، ومنها الدعاء لمسلم قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال له الملك ولك مثل ذلك» ‏{‏يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا‏}‏ وهو ثواب الشفاعة والتسبب إلى الخير الواقع بها‏.‏ ‏{‏وَمَن يَشْفَعْ شفاعة سَيّئَةً‏}‏ يريد بها محرماً‏.‏ ‏{‏يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا‏}‏ نصيب من وزرها مساوٍ لها في القدر‏.‏ ‏{‏وَكَانَ الله على كُلّ شَيْءٍ مُّقِيتاً‏}‏ مقتدراً من أقات على الشيء إذا قدر قال‏:‏

وَذِي ضُغْنٍ كَفَفْتُ الضُغْنَ عَنْه *** وَكُنْتُ عَلَى مَسَاءَتِهِ مُقِيتا

أو شهيداً حافظاً، واشتقاقه من القوت فإنه يقوي البدن ويحفظه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏86- 87‏]‏

‏{‏وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ‏(‏86‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ‏(‏87‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا‏}‏ الجمهور على أنه في السلام، ويدل على وجوب الجواب إما بأحسن منه وهو أن يزيد عليه ورحمة الله، فإن قاله المسلم زاد وبركاته وهي النهاية وإما برد مثله لما روي «أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ السلام عليك‏.‏ فقال‏:‏ وعليك السلام ورحمة الله‏.‏ وقال آخر‏:‏ السلام عليك ورحمة الله فقال‏:‏ وعليك السلام ورحمة الله وبركاته‏.‏ وقال آخر‏:‏ السلام عليك ورحمة الله وبركاته‏.‏ فقال‏:‏ وعليك‏.‏ فقال الرجل‏:‏ نقصتني فأين ما قال الله تعالى وتلا الآية‏.‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنك لم تترك لي فضلاً فردت عليك مثله»‏.‏ وذلك لاستجماعه أقسام المطالب السالمة عن المضار وحصول المنافع وثباتها ومنه قيل، أو للترديد بين أن يحيي المسلم ببعض التحية وبين أن يحيي بتمامها، وهذا الوجوب على الكفاية وحيث السلام مشروع فلا يرد في الخطبة، وقراءة القرآن، وفي الحمام، وعند قضاء الحاجة ونحوها‏.‏ والتحية في الأصل مصدر حياك الله على الإِخبار من الحياة، ثم استعمل للحكم والدعاء بذلك، ثم قيل لكل دعاء فغلب في السلام‏.‏ وقيل المراد بالتحية العطية وواجب الثواب أو الرد على المتهب، وهو قول قديم للشافعي رضي الله تعالى عنه‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَيْءٍ حَسِيباً‏}‏ يحاسبكم على التحية وغيرها‏.‏ ‏{‏الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ مبتدأ وخبر، أو ‏{‏الله‏}‏ مبتدأ والخبر ‏{‏لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة‏}‏ أي الله، والله ليحشرنكم من قبوركم إلى يوم القيامة، أو مفضين إليه أو في يوم القيامة، ولا إله إلا هو، اعتراض‏.‏ والقيام والقيامة كالطلاب والطلابة وهي قيام الناس من القبور أو للحساب‏.‏ ‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ في اليوم أو في الجمع فهو حال من اليوم، أو صفة للمصدر ‏{‏وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً‏}‏ إنكار أن يكون أحد أكثر صدقاً منه، فإنه لا يتطرق الكذب إلى خبره بوجه لأنه نقص وهو على الله محال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين‏}‏ فما لكم تفرقتم في أمر المنافقين‏.‏ ‏{‏فِئَتَيْنِ‏}‏ أي فرقتين ولم تتفقوا على كفرهم، وذلك أن ناساً منهم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى البدو لاجتواء المدينة، فلما خرجوا لم يزالوا رحلين مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين، فاختلف المسلمون في إسلامهم‏.‏ وقيل نزلت في المتخلفين يوم أحد، أو في قوم هاجروا ثم رجعوا معتلين باجتواء المدينة والاشتياق إلى الوطن، أو قوم أظهروا الإِسلام وقعدوا عن الهجرة‏.‏ و‏{‏فِئَتَيْنِ‏}‏ حال عاملها لكم كقولك‏:‏ ما لك قائماً‏.‏ و‏{‏فِي المنافقين‏}‏ حال من ‏{‏فِئَتَيْنِ‏}‏ أي متفرقتين فيهم، أو من الضمير أي فما لكم تفترقون فيهم، ومعنى الافتراق مستفاد من ‏{‏فِئَتَيْنِ‏}‏‏.‏ ‏{‏والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ‏}‏ ردهم إلى حكم الكفرة، أو نكسهم بأن صيرهم للنار‏.‏ وأصل الركس رد الشيء مقلوباً‏.‏ ‏{‏أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله‏}‏ أن تجعلوه من المهتدين‏.‏ ‏{‏وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً‏}‏ إلى الهدى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏89‏)‏‏}‏

‏{‏وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ‏}‏ تمنوا أن تكفروا ككفرهم‏.‏ ‏{‏فَتَكُونُونَ سَوَاء‏}‏ فتكونون معهم سواء في الضلال، وهو عطف على تكفرون ولو نصب على جواب التمني لجاز‏.‏ ‏{‏فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حتى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏ فلا توالوهم حتى يؤمنوا وتتحققوا إيمانهم بهجرة هي لله ورسوله لا لأغراض الدنيا، وسبيل الله ما أمر بسلوكه‏.‏ ‏{‏فَإِن تَوَلَّوْاْ‏}‏ عن الإِيمان الظاهر بالهجرة أو عن إظهار الإِيمان‏.‏ ‏{‏فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ‏}‏ كسائر الكفرة‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً‏}‏ أي جانبوهم رأساً ولا تقبلوا منهم ولاية ولا نصرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ‏(‏90‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ الذين يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ميثاق‏}‏ استثناء من قوله فخذوهم واقتلوهم أي‏:‏ إلا الذين يتصلون وينتهون إلى قوم عاهدوكم، ويفارقون محاربتكم‏.‏ والقوم هم خزاعة‏.‏ وقيل‏:‏ هم الأسلميون فإنه عليه الصلاة والسلام وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه، ومن لجأ إليه فله من الجوار مثل ماله‏.‏ وقيل بنو بكر بن زيد مناة‏.‏ ‏{‏أَوْ جَاؤُوكُمْ‏}‏ عطف على الصلة، أي أو الذين جاؤوكم كافين عن قتالكم وقتال قومهم، استثنى من المأمور بأخذهم وقتلهم من ترك المحاربين فلحق بالمعاهدين، أو أتى الرسول صلى الله عليه وسلم وكف عن قتال الفريقين، أو على صفة وكأنه قيل‏:‏ إلا الذين يصلون إلى قوم معاهدين، أو قوم كافين عن القتال لكم وعليكم‏.‏ والأول أظهر لقوله فإن اعتزلوكم‏.‏ وقرئ بغير العاطف على أنه صفة بعد صفة أو بيان ليصلون أو استئناف‏.‏ ‏{‏حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ‏}‏ حال بإضمار قد ويدل عليه أنه قرئ «حصرة صدورهم» وحصرات صدورهم، أو بيان لجاءوكم وقيل صفة محذوف أي جاؤوكم قوماً حصرت صدورهم، وهم بنو مدلج جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مقاتلين والحصر الضيق والانقباض‏.‏ ‏{‏أَن يقاتلوكم أَوْ يقاتلوا قَوْمَهُمْ‏}‏ أي عن أن أو لأن أو كراهة أن يقاتلوكم‏.‏ ‏{‏وَلَوْ شَاء الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ‏}‏ بأن قوى قلوبهم وبسط صدورهم وأزال الرعب عنهم‏.‏ ‏{‏فلقاتلوكم‏}‏ ولم يكفوا عنكم‏.‏ ‏{‏فَإِنِ اعتزلوكم فَلَمْ يقاتلوكم‏}‏ فإن لم يتعرضوا لكم‏.‏ ‏{‏وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السلم‏}‏ الاستسلام والانقياد‏.‏ ‏{‏فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً‏}‏ فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏91- 98‏]‏

‏{‏سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ‏(‏91‏)‏ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏92‏)‏ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ‏(‏93‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏94‏)‏ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏95‏)‏ دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏96‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏97‏)‏ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ‏(‏98‏)‏‏}‏

‏{‏سَتَجِدُونَ ءاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ‏}‏ هم أسد وغطفان، وقيل بنو عبد الدار أتوا المدينة وأظهروا الإسلام ليأمنوا المسلمين فلما رجعوا كفروا‏.‏ ‏{‏كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الفتنة‏}‏ دعوا إلى الكفر وإلى قتال المسلمين‏.‏ ‏{‏أُرْكِسُواْ فِيِهَا‏}‏ عادوا إليها وقلبوا فيها أقبح قلب‏.‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السلم‏}‏ وينبذوا إليكم العهد‏.‏ ‏{‏وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ‏}‏ عن قتالكم‏.‏ ‏{‏فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ‏}‏ حيث تمكنتم منهم فإن مجرد الكف لا يوجب نفي التعرض‏.‏ ‏{‏وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سلطانا مُّبِيناً‏}‏ حجة واضحة في التعرض لهم بالقتل والسبي لظهور عداوتهم ووضوح كفرهم وغدرهم، أو تسلطاً ظاهراً حيث أذناً لكم في قتلهم‏.‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ‏}‏ وما صح له وليس من شأنه‏.‏ ‏{‏أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً‏}‏ بغير حق‏.‏ ‏{‏إِلاَّ خَطَأً‏}‏ فإنه على عرضته، ونصبه على الحال أو المفعول له أي‏:‏ لا يقتله في شيء من الأحوال إلا حال الخطأ، أو لا يقتله لعلة إلا للخطأ أو على أنه صفة مصدر محذوف أي قتلاً خطأ‏.‏ وقيل ‏{‏مَا كَانَ‏}‏ نفي في معنى النهي، والاستثناء منقطع أي لكن إن قتله خطأ فجزاؤه ما يذكر، والخطأ ما لا يضامه القصد إلى الفعل أو الشخص أو لا يقصد به زهوق الروح غالباً، أو لا يقصد به محظور كرمي مسلم في صف الكفار مع الجهل بإسلامه، أو يكون فعل غير المكلف‏.‏ وقرئ ‏{‏خطاء‏}‏ بالمد و‏{‏خطا‏}‏ كعصا بتخفيف الهمزة، والآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل من الأم، لقي حارث بن زيد في طريق وكان قد أسلم ولم يشعر به عياش فقتله‏.‏ ‏{‏وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ‏}‏ أي فعليه أو فواجبه تحرير رقبة، والتحرير الإعتاق، والحر كالعتيق للكريم من الشيء ومنه حر الوجه لأكرم موضع منه، سمي به لأن الكرم في الأحرار واللؤم في العبيد، والرقبة عبر بها عن النسمة كما عبر عنها بالرأس‏.‏ ‏{‏مُؤْمِنَةٍ‏}‏ محكوم بإسلامها وإن كانت صغيرة‏.‏ ‏{‏وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ‏}‏ مؤداة إلى ورثته يقتسمونها كسائر المواريث، لقول ضحاك بن سفيان الكلابي‏:‏ ‏(‏كتب إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أورث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها‏)‏‏.‏ وهي على العاقلة فإن لم تكن فعلى بيت المال، فإن لم يكن ففي ماله‏.‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ‏}‏ إلا أن يتصدقوا عليه بالدية‏.‏ سمي العفو عنها صدقة حثاً عليه وتنبيهاً على فضله، وعن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كل معروف صدقة» وهو متعلق بعليه، أو بمسلمة أي تجب الدية عليه أو يسلمها إلى أهله إلا حال تصدقهم عليه‏.‏ أو زمانه فهو في محل النصب على الحال من القاتل أو الأهل أو الظرف‏.‏

‏{‏فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ‏}‏ أي فإن كان المؤمن المقتول من قوم كفار محاربين، أو في تضاعيفهم ولم يعلم إيمانه فعلى قاتله الكفارة دون الدية لأهله إذ لا وراثة بينه وبينهم ولأنهم محاربون‏.‏ ‏{‏وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً‏}‏ أي وإن كان من قوم كفرة معاهدين، أو أهل الذمة فحكمه حكم المسلمين في وجوب الكفارة والدية ولعله فيما إذا كان المقتول معاهداً، أو كان له وارث مسلم‏.‏ ‏{‏فَمَن لَّمْ يَجِدْ‏}‏ رقبة بأن لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها‏.‏ ‏{‏فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ‏}‏ فعليه أو فالواجب عليه صيام شهرين متتابعين‏.‏ ‏{‏تَوْبَةً‏}‏ نصب على المفعول له أي شرع ذلك توبة، من تاب الله عليه إذا قبل توبته‏.‏ أو على المصدر أي وتاب الله عليكم توبة أو الحال بحذف مضاف أي فعليه صيام شهرين ذا توبة‏.‏ ‏{‏مِنَ الله‏}‏ صفتها‏.‏ ‏{‏وَكَانَ الله عَلِيماً‏}‏ بحاله‏.‏ ‏{‏حَكِيماً‏}‏ فيما أمر في شأنه‏.‏

‏{‏وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً‏}‏ لما فيه من التهديد العظيم‏.‏ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏.‏ ‏"‏ لا تقبل توبة قاتل المؤمن عمداً ‏"‏ ولعله أراد به التشديد إذ روي عنه خلافه‏.‏ والجمهور على أنه مخصوص بمن لم يتب لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنّي لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ‏}‏ ونحوه وهو عندنا إما مخصوص بالمستحل له كما ذكره عكرمة وغيره، ويؤيده أنه نزل في مقيس بن ضبابة وجد أخاه هشاماً قتيلاً في بني النجار ولم يظهر قاتله، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفعوا إليه ديته فدفعوا إليه ثم حمل على مسلم فقتله ورجع إلى مكة مرتداً، أو المراد بالخلود المكث الطويل فإن الدلائل متظاهرة على أن عصاة المسلمين لا يدوم عذابهم‏.‏

‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله‏}‏ سافرتم وذهبتم للغزو‏.‏ ‏{‏فَتَبَيَّنُواْ‏}‏ فاطلبوا بيان الأمر وثباته ولا تعجلوا فيه‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي «فتثبتوا» في الموضعين هنا، وفي «الحجرات» من التثبت‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السلام‏}‏ لمن حياكم بتحية الإسلام‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر وحمزة السلم بغير الألف أي الاستسلام والانقياد وفسر به السلام أيضاً‏.‏ ‏{‏لَسْتَ مُؤْمِناً‏}‏ وإنما فعلت ذلك متعوذاً‏.‏ وقرئ ‏{‏مُؤْمِناً‏}‏ بالفتح أي مبذولاً له الأمان‏.‏ ‏{‏تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا‏}‏ تطلبون ماله الذي هو حطام سريع النفاذ، وهو حال من الضمير في تقولوا مشعر بما هو الحامل لهم على العجلة وترك التثبت‏.‏ ‏{‏فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ‏}‏ لكم‏.‏ ‏{‏كَثِيرَةٍ‏}‏ نغنيكم عن قتل أمثاله لماله‏.‏ ‏{‏كذلك كُنتُمْ مّن قَبْلُ‏}‏ أي أول ما دخلتم في الإِسلام تفوهتم بكلمتي الشهادة فحصنت بها دماؤكم وأموالكم من غير أن يعلم مواطأة قلوبكم ألسنتكم‏.‏

‏{‏فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ‏}‏ بالاشتهار بالإِيمان والاستقامة في الدين‏.‏ ‏{‏فَتَبَيَّنُواْ‏}‏ وافعلوا بالداخلين في الإِسلام كما فعل الله بكم، ولا تبادروا إلى قتلهم ظناً بأنهم دخلوا فيه اتقاء وخوفاً، فإن إبقاء ألف كافر أهون عند الله من قتل امرئ مسلم‏.‏ وتكريره تأكيد لتعظيم الأمر وترتيب الحكم على ما ذكر من حالهم‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً‏}‏ عالماً به وبالغرض منه فلا تتهافتوا في القتل واحتاطوا فيه‏.‏ روي ‏(‏أن سرية رسول الله صلى الله عليه وسلم غزت أهل فدك فهربوا وبقي مرداس ثقة بإسلامه، فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل وصعد، فلما تلاحقوا به وكبروا كبر ونزل وقال‏:‏ لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم فقتله أسامة واستاق غنمه‏)‏ وقيل نزلت في المقداد مر برجل في غنيمة فأراد قتله فقال‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏ فقتله وقال‏:‏ ود لو فر بأهله وماله‏.‏ وفيه دليل على صحة إيمان المكره وأن المجتهد قد يخطئ وأن خطأه مغتفر‏.‏

‏{‏لاَّ يَسْتَوِي القاعدون‏}‏ عن الحرب‏.‏ ‏{‏مِنَ المؤمنين‏}‏ في موضع الحال من القاعدين أو من الضمير الذي فيه‏.‏ ‏{‏غَيْرُ أُوْلِي الضرر‏}‏ بالرفع صفة للقاعدون لأنه لم يقصد به قوم بأعيانهم أو بدل منه‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بالنصب على الحال أو الاستثناء‏.‏ وقرئ بالجر على أنه صفة للمؤمنين أو بدل منه‏.‏ وعن زيد بن ثابت أنها نزلت ولم يكن فيها غير أولي الضرر فقال ابن أم مكتوم‏:‏ وكيف وأنا أعمى فغشي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه الوحي، فوقعت فخذه على فخذي حتى خشيت أن ترضها ثم سري عنه فقال اكتب ‏{‏لاَّ يَسْتَوِى القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر‏}‏ ‏{‏والمجاهدون فِي سَبِيلِ الله بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ‏}‏ أي لا مساواة بينهم وبين من قعد عن الجهاد من غير علة‏.‏ وفائدته تذكير ما بينهما من التفاوت ليرغب القاعد في الجهاد رفعاً لرتبته وأنفة عن انحطاط منزلته‏.‏ ‏{‏فَضَّلَ الله المجاهدين بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً‏}‏ جملة موضحة لما نفي الاستواء فيه والقاعدون على التقييد السابق، ودرجة نصب بنزع الخافض أي بدرجة أو على المصدر لأنه تضمن معنى التفضيل ووقع موقع المرة منه، أو الحال بمعنى ذوي درجة‏.‏ ‏{‏وَكُلاًّ‏}‏ من القاعدين والمجاهدين‏.‏ ‏{‏وَعَدَ الله الحسنى‏}‏ المثوبة الحسنى وهي الجنة لحسن عقيدتهم وخلوص نيتهم، وإنما التفاوت في زيادة العمل المقتضي لمزيد الثواب‏.‏ ‏{‏وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين أَجْراً عَظِيماً‏}‏ نصب على المصدر لأن فضل بمعنى أجر، أو المفعول الثاني له لتضمنه معنى الإِعطاء كأنه قيل‏:‏ وأعطاهم زيادة على القاعدين أجراً عظيماً‏.‏

‏{‏درجات مّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً‏}‏ كل واحد منها بدل من أجراً، ويجوز أن ينتصب درجات على المصدر كقولك‏:‏ ضربته أسواطاً، وأجراً على الحال عنها تقدمت عليها لأنها نكرة، ومغفرة ورحمة على المصدر بإضمار فعليهما كرر تفضيل المجاهدين، وبالغ فيه إجمالاً وتفصيلاً تعظيماً للجهاد وترغيباً فيه‏.‏ وقيل‏:‏ الأول ما خولهم في الدنيا من الغنيمة والظفر وجميل الذكر، والثاني ما جعل لهم في الآخرة‏.‏ وقيل المراد بالدرجة الأولى ارتفاع منزلتهم عند الله سبحانه وتعالى، وبالدرجات منازلهم في الجنة‏.‏ وقيل القاعدون الأول هم الأضراء والقاعدون الثاني هم الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم‏.‏ وقيل المجاهدون الأولون من جاهد الكفار والآخرون من جاهد نفسه وعليه قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ‏"‏‏.‏ ‏{‏وَكَانَ الله غَفُوراً‏}‏ لما عسى أن يفرط منهم‏.‏ ‏{‏رَّحِيماً‏}‏ بما وعد لهم‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين توفاهم الملئكة‏}‏ يحتمل الماضي والمضارع، وقرئ «توفتهم» و«توفاهم» على مضارع وفيت بمعنى أن الله يوفي الملائكة أنفسهم فيتوفونها أي يمكنهم من استيفائها فيستوفونها‏.‏ ‏{‏ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ‏}‏ في حال ظلمهم أنفسهم بترك الهجرة وموافقة الكفرة فإنها نزلت في أناس من مكة أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة واجبة‏.‏ ‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي الملائكة توبيخاً لهم‏.‏ ‏{‏فِيمَ كُنتُمْ‏}‏ في أي شيء كنتم من أمر دينكم‏.‏ ‏{‏قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض‏}‏ اعتذروا مما وبخوا به بضعفهم وعجزهم عن الهجرة، أو عن إظهار الدين وإعلاء كلمة الله‏.‏ ‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي الملائكة تكذيباً لهم أو تبكيتاً‏.‏ ‏{‏أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسعة فتهاجروا فِيهَا‏}‏ إلى قطر آخر كما فعل المهاجرون إلى المدينة والحبشة‏.‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ‏}‏ لتركهم الواجب ومساعدتهم الكفار‏.‏ وهو خبر إن والفاء فيه لتضمن الاسم معنى الشرط، وقالوا فيم كنتم حال من الملائكة بإضمار قد أو الخبر قالوا والعائد محذوف أي قالوا لهم، وهو جملة معطوفة على الجملة التي قبلها مستنتجة منها‏.‏ ‏{‏وَسَاءتْ مَصِيراً‏}‏ مصيرهم نار جهنم، وفي الآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة دينه، وعن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجبت له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد عليهما الصلاة والسلام ‏"‏ ‏{‏إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال والنساء والولدان‏}‏ استثناء منقطع لعدم دخولهم في الموصول وضميره والإِشارة إليه، وذكر الولد إن أريد به المماليك فظاهر، وإن أريد به الصبيان فللمبالغة في الأمر والإِشعار بأنهم على صدد وجوب الهجرة، فإنهم إذا بلغوا وقدروا على الهجرة فلا محيص لهم عنها وأن قوامهم يجب عليهم أن يهاجروا بهم متى أمكنت‏.‏ ‏{‏لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً‏}‏ صفة للمستضعفين إذ لا توقيت فيه، أو حال منه أو من المستكن فيه‏.‏ واستطاعة الحيلة وجدان أسباب الهجرة وما تتوقف عليه، واهتداء السبيل معرفة الطريق بنفسه أو بدليل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ‏(‏99‏)‏‏}‏

‏{‏فَأُوْلَئِكَ عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ‏}‏ ذكر بكلمة الإِطماع ولفظ العفو إيذاناً بأن ترك الهجرة أمر خطير حتى إن المضطر من حقه أن لا يأمن ويترصد الفرصة ويعلق بها قلبه‏.‏ ‏{‏وَكَانَ الله عَفُوّاً غَفُوراً‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏100‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً‏}‏ متحولاً من الرغام وهو التراب‏.‏ وقيل طريق يراغم قومه بسلوكه أي يفارقهم على رغم أنوفهم وهو أيضاً من الرغام‏.‏ ‏{‏واسعة‏}‏ في الرزق وإظهار الدين‏.‏ ‏{‏وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مهاجرا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت‏}‏ وقرئ ‏{‏يُدْرِكْهُ‏}‏ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ثم هو يدركه وبالنصب على إضمار أن كقوله‏:‏

سَأَتْرُك مَنْزِلِي بِبَني تَمِيم *** وَأَلْحَقُ بالحِجَازِ فَأَسْتَرِيحا

‏{‏فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏ الوقوع والوجوب متقاربان والمعنى‏:‏ ثبت أجره عند الله تعالى ثبوت الأمر الواجب‏.‏ والآية الكريمة نزلت في جندب بن ضمرة حمله بنوه على سرير متوجهاً إلى المدينة، فلما بلغ التنعيم أشرف على الموت فصفق بيمينه على شماله فقال‏:‏ اللهم هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما بايع عليه رسولك صلى الله عليه وسلم فمات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا ‏(‏101‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض‏}‏ سافرتم‏.‏ ‏{‏فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة‏}‏ بتنصيف ركعاتها ونفي الحرج فيه يدل على جوازه دون وجوبه، ويؤيده أن عليه الصلاة والسلام أتم في السفر ‏"‏ وأن عائشة رضي الله تعالى عنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت‏:‏ يا رسول الله قصرت وأتممت، وصمت وأفطرت‏.‏ فقال‏:‏ «أحسنت يا عائشة ‏"‏‏.‏ وأوجبه أبو حنيفة لقول عمر رضي الله تعالى عنه ‏"‏ صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم، ولقول عائشة رضي الله تعالى عنها أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر ‏"‏‏.‏ فظاهرهما يخالف الآية الكريمة فإن صحا فالأول مؤول بأنه كالتام في الصحة والإِجزاء، والثاني لا ينفي جواز الزيادة فلا حاجة إلى تأويل الآية‏.‏ بأنهم ألفوا الأربع فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن ركعتي السفر قصر ونقصان، فسمي الإتيان بهما قصراً على ظنهم‏.‏ ونفي الجناح فيه لتطبيب به نفوسهم، وأقل سفر تقصر فيه أربعة برد عندنا وستة عند أبي حنيفة‏.‏ قرئ ‏{‏تَقْصُرُواْ‏}‏ من أقصر بمعنى قصر ومن الصلاة صفة محذوف أي‏:‏ شيئاً من الصلاة عند سيبويه، ومفعول تقصروا بزيادة عند الأخفش‏.‏ ‏{‏إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً‏}‏ شريطة باعتبار الغالب في ذلك الوقت، ولذلك لم يعتبر مفهومها كما لم يعتبر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ‏}‏ وقد تظاهرت السنن على جوازه أيضاً في حال الأمن‏.‏ وقرئ من الصلاة أن يفتنكم بغير إن خفتم بمعنى كراهة أن يفتنكم‏:‏ وهو القتال والتعرض بما يكره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏102‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة‏}‏ تعلق بمفهومه من خص صلاة الخوف بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم لفضل الجماعة، وعامة الفقهاء على أنه تعالى علم الرسول صلى الله عليه وسلم كيفيتها ليأتم به الأئمة بعده فإنهم نواب عنه فيكون حضورهم كحضوره‏.‏ ‏{‏فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ‏}‏ فاجعلهم طائفتين فلتقم إحداهما معك يصلون وتقوم الطائفة الأخرى تجاه العدو‏.‏ ‏{‏وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ‏}‏ أي المصلون حزماً‏.‏ وقيل الضمير للطائفة الأخرى، وذكر الطائفة الأولى يدل عليهم‏.‏ ‏{‏فَإِذَا سَجَدُواْ‏}‏ يعني المصلين‏.‏ ‏{‏فَلْيَكُونُواْ‏}‏ أي غير المصلين‏.‏ ‏{‏مِن وَرَائِكُمْ‏}‏ يحرسونكم يعني النبي صلى الله عليه وسلم ومن يصلي معه، فغلب المخاطب على الغالب‏.‏ ‏{‏وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أخرى لَمْ يُصَلُّواْ‏}‏ لاشتغالهم بالحراسة‏.‏ ‏{‏فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ‏}‏ ظاهره يدل على أن الإِمام يصلي مرتين بكل طائفة مرة كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن نخل، وإن أريد به أن يصلي بكل ركعة إن كانت الصلاة ركعتين فكيفيته أن يصلي بالأولى ركعة وينتظر قائماً حتى يتموا صلاتهم منفردين ويذهبوا إلى وجه العدو، وتأتي الأخرى فيتم بهم الركعة الثانية‏.‏ ثم ينتظر قاعداً حتى يتموا صلاتهم ويسلموا بهم كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع‏.‏ وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه‏:‏ يصلي بالأولى ركعة ثم تذهب هذه وتقف بإزاء العدو وتأتي الأخرى فتصلي معه ركعة، ويتم صلاته ثم تعود إلى وجه العدو، وتأتي الأولى فتؤدي الركعة الثانية بغير قراءة وتتم صلاتها ثم تعود وتأتي الأخرى فتؤدي الركعة بقراءة وتتم صلاتها‏.‏ ‏{‏وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ‏}‏ جعل الحذر آلة يتحصن بها المغازي فجمع بينه وبين الأسلحة في وجوب الأخذ ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين تَبَوَّءوا الدار والإيمان‏}‏ ‏{‏وَدَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً واحدة‏}‏ تمنوا أن ينالوا منكم غرة في صلاتكم فيشدون عليكم شدة واحدة، وهو بيان ما لأجله أمروا بأخذ الحذر والسلاح‏.‏ ‏{‏وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ‏}‏ رخصة لهم في وضعها إذا ثقل عليهم أخذها بسبب مطر أو مرض، وهذا مما يؤيد أن الأمر بالأخذ للوجوب دون الاستحباب‏.‏ ‏{‏وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ‏}‏ أمرهم مع ذلك بأخذ الحذر كي لا يهجم عليهم العدو‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله أَعَدَّ للكافرين عَذَاباً مُّهِيناً‏}‏ وعد للمؤمنين بالنصر على الكفار بعد الأمر بالحزم لتقوى قلوبهم وليعلموا أن الأمر بالحزم ليس لضعفهم وغلبة عدوهم، بل لأن الواجب أن يحافظوا في الأمور على مراسم التيقظ والتدبر فيتوكلوا على الله سبحانه وتعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ‏(‏103‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة‏}‏ أديتم وفرغتم منها‏.‏ ‏{‏فاذكروا الله قياما وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِكُمْ‏}‏ فداوموا على الذكر في جميع الأحوال، أو إذا أردتم أداء الصلاة واشتد الخوف فأدوها كيفما أمكن، قياماً مسايفين ومقارعين، وقعوداً مرامين وعلى جنوبكم مثخنين‏.‏ ‏{‏فَإِذَا اطمأننتم‏}‏ سكنت قلوبكم من الخوف‏.‏ ‏{‏فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ‏}‏ فعدلوا واحفظوا أركانها وشرائطها وائتوا بها تامة‏.‏ ‏{‏إِنَّ الصلاة كَانَت عَلى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً‏}‏ فرضاً محدود الأوقات لا يجوز إخراجها عن أوقاتها في شيء من الأحوال، وهذا دليل على أن المراد بالذكر الصلاة وأنها واجبة الأداء حال المسايفة والاضطراب في المعركة، وتعليل للأمر بالإِيتاء بها كيفما أمكن‏.‏ وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى لا يصلي المحارب حتى يطمئن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏104‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَهِنُواْ‏}‏ ولا تضعفوا‏.‏ ‏{‏فِي ابتغاء القوم‏}‏ في طلب الكفار بالقتال‏.‏ ‏{‏إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ‏}‏ إلزام لهم وتقريع على التواني فيه، بأن ضرر القتال دائر بين الفريقين غير مختص بهم، وهم يرجون من الله بسببه من إظهار الدين واستحقاق الثروات ما لا يرجو عدوهم، فينبغي أن يكونوا أرغب منهم في الحرب وأصبر عليها‏.‏ وقرئ ‏{‏إِن تَكُونُواْ‏}‏ بالفتح بمعنى ولا تهنوا لأن تكونوا تألمون، ويكون قوله فإنهم يألمون علة للنهي عن الوهن لأجله‏.‏ والآية نزلت في بدر الصغرى‏.‏ ‏{‏وَكَانَ الله عَلِيماً‏}‏ بأعمالكم وضمائركم‏.‏ ‏{‏حَكِيماً‏}‏ فيما يأمر وينهي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ‏(‏105‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس‏}‏ نزلت في طعمة بن أبيرق من بني ظفر، سرق درعا من جارهُ قتادة بن النعمان في جراب دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه وخبأها عند زيد بن السمين اليهودي، فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد، وحلف ما أخذها وماله بها علم فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها‏.‏ فقال دفعها إلى طعمة وشهد له ناس من اليهود فقالت بنو ظفر‏:‏ انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا‏:‏ إن لم تفعل هلك وافتضح وبرئ اليهودي فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ‏{‏بِمَا أَرَاكَ الله‏}‏ بما عرفك الله وأوحى به إليك وليس من الرؤية بمعنى العلم وإلا لاستدعى ثلاثة مفاعيل‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَكُن لّلْخَائِنِينَ‏}‏ أي لأجلهم والذب عنهم ‏{‏خَصِيماً‏}‏ للبرآء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏106- 115‏]‏

‏{‏وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏106‏)‏ وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ‏(‏107‏)‏ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ‏(‏108‏)‏ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ‏(‏109‏)‏ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏110‏)‏ وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏111‏)‏ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏112‏)‏ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ‏(‏113‏)‏ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏114‏)‏ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏115‏)‏‏}‏

‏{‏واستغفر الله‏}‏ مما همت به‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏ لمن يستغفر‏.‏

‏{‏وَلاَ تجادل عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ‏}‏ يخونونها فإن وبال خيانتهم يعود عليها، أو جعل المعصية خيانة لها كما جعلت ظلماً عليها، والضمير لطعمة وأمثاله أو له ولقومه فإنهم شاركوه في الإِثم حيث شهدوا على براءته وخاصموا عنه‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً‏}‏ مبالغاً في الخيانة مصراً عليها‏.‏ ‏{‏أَثِيماً‏}‏ منهمكاً فيها‏.‏ روي‏:‏ أن طعمة هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطاً بها ليسرق أهله فسقط الحائط عليه فقتله‏.‏

‏{‏يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس‏}‏ يستترون منهم حياء وخوفاً‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله‏}‏ ولا يستحيون منه وهو أحق بأن يستحيا ويخاف منه‏.‏ ‏{‏وَهُوَ مَعَهُمْ‏}‏ لا يخفي عليه سرهم فلا طريق معه إلا ترك ما يستقبحه ويؤاخذ عليه‏.‏ ‏{‏إِذْ يُبَيّتُونَ‏}‏ يدبرون ويزورون‏.‏ ‏{‏مَا لاَ يرضى مِنَ القول‏}‏ من رمي البريء والحلف الكاذب وشهادة الزور‏.‏ ‏{‏وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً‏}‏‏.‏ لا يفوت عنه شيء‏.‏

‏{‏هَا أَنتُمْ هؤلاء‏}‏ مبتدأ وخبر‏.‏ ‏{‏جادلتم عَنْهُمْ فِي الحياة الدنيا‏}‏ جملة مبينة لوقوع أولاء خبراً أو صلة عند من يجعله موصولاً‏.‏ ‏{‏فَمَن يجادل الله يَوْمَ القيامة أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً‏}‏ محامياً يحميهم من عذاب الله‏.‏

‏{‏وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً‏}‏ قبيحاً يسوء به غيره‏.‏ ‏{‏أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ‏}‏ بما يختص به ولا يتعداه‏.‏ وقيل المراد بالسوء ما دون الشرك، وبالظلم الشرك‏.‏ وقيل‏:‏ الصغيرة والكبيرة‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله‏}‏ بالتوبة‏.‏ ‏{‏يَجِدِ الله غَفُوراً‏}‏ لذنوبه‏.‏ ‏{‏رَّحِيماً‏}‏ متفضلاً عليه، وفيه حث لطعمة وقومه على التوبة والاستغفار‏.‏

‏{‏وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ‏}‏ فلا يتعداه وباله كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا‏}‏‏.‏ ‏{‏وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً‏}‏ فهو عالم بفعله حكيم في مجازاته‏.‏

‏{‏وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً‏}‏ صغيرة أو ما لا عمد فيه‏.‏ ‏{‏أَوْ إِثْماً‏}‏ كبيرة أو ما كان عن عمد‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً‏}‏ كما رمى طعمة زيداً، ووحد الضمير لمكان أو‏.‏ ‏{‏فَقَدِ احتمل بهتانا وَإِثْماً مُّبِيناً‏}‏ بسبب رمي البريء وتبرئة النفس الخاطئة، ولذلك سوى بينهما وإن كان مقترف أحدهما دون مقترف الآخر‏.‏

‏{‏وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ‏}‏ بإعلام ما هم عليه بالوحي، والضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ‏}‏ أي من بني ظفر‏.‏ ‏{‏أَن يُضِلُّوكَ‏}‏ عن القضاء بالحق مع علمهم بالحال، والجملة جواب لولا وليس القصد فيه إلى نفي همهم بل إلى نفي تأثيره فيه‏.‏ ‏{‏وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ‏}‏ لأنه ما أزلك عن الحق وعاد وباله عليهم‏.‏ ‏{‏وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ‏}‏ فإن الله سبحانه وتعالى عصمك وما خطر ببالك كان اعتماداً منك على ظاهر الأمر لا ميلاً في الحكم، ومن شيء في موضع النصب على المصدر أي شيء من الضرر ‏{‏وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ‏}‏ من خفيات الأمور، أو من أمور الدين والأَحكام‏.‏

‏{‏وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً‏}‏ إذ لا فضل أعظم من النبوة‏.‏

‏{‏لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ‏}‏ من متناجيهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ هُمْ نجوى‏}‏ أو من تناجيهم فقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ‏}‏ على حذف مضاف أي إلا نجوى من أمر أو على الانقطاع بمعنى ولكن من أمر بصدقة ففي نجواه الخير، والمعروف كل ما يستحسنه الشرع ولا ينكره العقل‏.‏ وفسرها هنا بالقرض وإغاثة الملهوف وصدقة التطوع وسائر ما فسر به‏.‏ ‏{‏أَوْ إصلاح بَيْنَ الناس‏}‏ أو إصلاح ذات البين‏.‏ ‏{‏وَمَن يَفْعَلْ ذلك ابتغاء مَرْضَاتَ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً‏}‏ بني الكلام على الأمر ورتب الجزاء على الفعل ليدل على أنه لما دخل الآمر في زمرة الخيرين كان الفاعل أدخل فيهم، وأن العمدة والغرض هو الفعل واعتبار الأمر من حيث إنه وصلة إليه، وقيد الفعل بأن يقول لطلب مرضاة الله سبحانه وتعالى، لأن الأعمال بالنيات وأن كل من فعل خيراً رياء وسمعة لم يستحق به من الله أجراً‏.‏ ووصف الأجر بالعظم تنبيهاً على حقارة ما فات في جنبه من أعراض الدنيا‏.‏ وقرأ حمزة وأبو عمرو «يؤتيه» بالياء‏.‏

‏{‏وَمَن يُشَاقِقِ الرسول‏}‏ يخالفه، من الشق فإن كلا من المتخالفين في شق غير شق الآخر‏.‏ ‏{‏مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى‏}‏ ظهر له الحق بالوقوف على المعجزات‏.‏ ‏{‏وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين‏}‏ غير ما هم عليه من اعتقاد أو عمل‏.‏ ‏{‏نُوَلّهِ مَا تولى‏}‏ نجعله والياً لما تولى من الضلال، ونخل بينه وبين ما اختاره‏.‏ ‏{‏وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ‏}‏ وندخله فيها‏.‏ وقرئ بفتح النون من صلاة‏.‏ ‏{‏وَسَاءتْ مَصِيراً‏}‏ جهنم، والآية تدل على حرمة مخالفة الإِجماع، لأنه سبحانه وتعالى رتب الوعيد الشديد على المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين، وذلك إما لحرمة كل واحد منهما أو أحدهما أو الجمع بينهما، والثاني باطل إذ يقبح أن يقال من شرب الخمر وأكل الخبز استوجب الحد، وكذا الثالث لأن المشاقة محرمة ضم إليها غيرها أو لم يضم، وإذا كان اتباع غير سبيلهم محرماً كان اتباع سبيلهم واجباً، لأن ترك اتباع سبيلهم ممن عرف سبيلهم اتباع غير سبيلهم، وقد استقصيت الكلام فيه في مرصاد الأفهام إلى مبادئ الأحكام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏116‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏116‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ كرره للتأكيد، أو لقصة طعمة‏.‏ وقيل جاء شيخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ إني شيخ منهك في الذنوب ألا أني لم أشرك بالله شيئاً منذ عرفته وآمنت به ولم اتخذ من دونه ولياً، ولم أوقع المعاصي جرأة، وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله هرباً، وإني لنادم تائب فما ترى حالي عند الله سبحانه وتعالى‏.‏ فنزلت ‏{‏وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ ضلالا بَعِيداً‏}‏ عن الحق فإن الشرك أعظم أنواع الضلالة وأبعدها عن الصواب والاستقامة، وإنما ذكر في الآية الأولى فقد افترى لأنها متصلة بقصة أهل الكتاب، ومنشأ شركهم كان نوع افتراء وهو دعوى التبني على الله سبحانه وتعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏117‏]‏

‏{‏إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا ‏(‏117‏)‏‏}‏

‏{‏إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إناثا‏}‏ يعني اللات والعزى ومناة ونحوها، كان لكل حي صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان وذلك إما لتأنيث أسمائها كما قال‏:‏

وَمَا ذَكَرٌ فَإِنْ يَسْمَنْ فَأُنْثَى *** شَدِيد الأزمِ لَيْسَ لَهُ ضُرُوسٌ

فَإِنه عنى القراد وهو ما كان صغيراً سمي قراداً فإذا كبر سمي حلمة، أو لأنها كانت جمادات والجمادات تؤنث من حيث إنها ضاهت الإِناث لا نفعاً لها، ولعله سبحانه وتعالى ذكرها بهذا الاسم تنبيهاً على أنهم يعبدون ما يسمونه إناثاً لأنه ينفعل ولا يفعل، ومن حق المعبود أن يكون فاعلاً غير منفعل ليكون دليلاً على تناهي جهلهم وفرط حماقتهم‏.‏ وقيل المراد الملائكة لقولهم‏:‏ الملائكة بنات الله، سبحانه وتعالى، وهو جمع أنثى كرباب وربى، وقرئ «أنثى» على التوحيد وأننا على أنه جمع أنيث كخبث وخبيث، ووثنا بالتخفيف ووثناً بالتثقيل وهو جمع وثن كأسد وأسد وأسد وأثنا أثنا بهما على قلب الواو لضمها همزة‏.‏ ‏{‏وَإِن يَدْعُونَ‏}‏ وإن يعبدون بعبادتها‏.‏ ‏{‏إِلاَّ شيطانا مَّرِيداً‏}‏ لأنه الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم عليها، فكأن طاعته في ذلك عبادة له، والمارد والمريد الذي لا يعلق بخير‏.‏ وأصل التركيب للملابسة‏.‏ ومنه ‏{‏صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ‏}‏ وغلام أمرد وشجرة مرداء للتي تناثر ورقها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏118‏]‏

‏{‏لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ‏(‏118‏)‏‏}‏

‏{‏لَّعَنَهُ الله‏}‏ صفة ثانية للشيطان‏.‏ ‏{‏وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً‏}‏ عطف عليه أي شيطاناً مريداً جامعاً بين لعنة الله، وهذا القول الدال على فرط عداوته للناس‏.‏

وقد برهن سبحانه وتعالى أولاً على أن الشرك ضلال في الغاية على سبيل التعليل، بأن ما يشركون به ينفعل ولا يفعل فعلاً اختيارياً، وذلك ينافي الألوهية غاية المنافاة، فإن الإله ينبغي أن يكون فاعلاً غير منفعل، ثم استدل عليه بأنه عبادة الشيطان وهي أفظع الضلال لثلاثة أوجه‏.‏ الأول‏:‏ أنه مريد منهمك في الضلال لا يعلق بشيء من الخير والهدى، فتكون طاعته ضلالاً بعيداً عن الهدى‏.‏ والثاني‏:‏ أنه ملعون لضلاله فلا تستجلب مطاوعته سوى الضلال واللعن‏.‏ والثالث‏:‏ أنه في غاية العداوة والسعي في إهلاكهم وموالاة من هذا شأنه غاية الضلال فضلاً عن عبادته‏.‏ والمفروض المقطوع أي نصيباً قدر لي وفرض من قولهم فرض له في العطاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏119‏]‏

‏{‏وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ‏(‏119‏)‏‏}‏

‏{‏وَلأُضِلَّنَّهُمْ‏}‏ عن الحق‏.‏ ‏{‏وَلأُمَنّيَنَّهُمْ‏}‏ الأماني الباطلة كطول الحياة وأن لا بعث ولا عقاب‏.‏ ‏{‏وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءَاذَانَ الأنعام‏}‏ يشقونها لتحريم ما أحل الله وهي عبارة عما كانت العرب تفعل بالبحائر والسوائب، وإشارة إلى تحريم ما أحل ونقص كل ما خلق كاملاً بالفعل أو القوة‏.‏ ‏{‏وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ الله‏}‏ عن وجهه وصورته أو صفته‏.‏ ويندرج فيه ما قيل من فقء عين الحامي، وخصاء العبيد، والوشم، والوشر، واللواط، والسحق، ونحو ذلك وعبادة الشمس، والقمر، وتغيير فطرة الله تعالى التي هي الإِسلام، واستعمال الجوارح والقوى فيما لا يعود على النفس كمالاً ولا يوجب لها من الله سبحانه وتعالى زلفى‏.‏ وعموم اللفظ يمنع الخصاء مطلقاً لكن الفقهاء خصوا في خصاء البهائم للحاجة‏.‏ والجمل الأربع حكاية عما ذكره الشيطان نطقاً أو أتاه فعلاً‏.‏ ‏{‏وَمَن يَتَّخِذِ الشيطان وَلِيّاً مّن دُونِ الله‏}‏ بإيثاره ما يدعو إليه على ما أمر الله به ومجاوزته عن طاعة الله سبحانه وتعالى إلى طاعته‏.‏ ‏{‏فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً‏}‏ إذا ضيع رأس ماله وبدل مكانه من الجنة بمكان من النار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏120‏]‏

‏{‏يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ‏(‏120‏)‏‏}‏

‏{‏يَعِدُهُمْ‏}‏ ما لا ينجزه‏.‏ ‏{‏وَيُمَنِّيهِمْ‏}‏ ما لا ينالون‏.‏ ‏{‏وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً‏}‏ وهو إظهار النفع فيما فيه الضرر وهذا الوعد إما بالخواطر الفاسدة، أو بلسان أوليائه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏121- 121‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ‏(‏121‏)‏‏}‏

‏{‏أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً‏}‏ معدلاً ومهرباً من حاص يحيص إذا عدل وعنها حال منه، وليس صلة له لأنه اسم مكان وإن جعل مصدراً فلا يعمل أيضاً فيما قبله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏122‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ‏(‏122‏)‏‏}‏

‏{‏والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً وَعْدَ الله حَقّاً‏}‏‏.‏ أي وعده وعداً وحق ذلك حقاً، فالأول مؤكد لنفسه لأن مضمون الجملة الإِسمية التي قبله وعد، والثاني مؤكد لغيره ويجوز أن ينصب الموصول بفعل يفسره ما بعده، ووعد الله بقوله ‏{‏سَنُدْخِلُهُمْ‏}‏ لأنه بمعنى نعدهم إدخالهم وحقاً على أنه حال من المصدر‏.‏ ‏{‏وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً‏}‏ جملة مؤكدة بليغة، والمقصود من الآية معارضة المواعيد الشيطانية الكاذبة لقرنائه بوعد الله الصادق لأوليائه، والمبالغة في توكيده ترغيباً للعباد في تحصيله‏.‏